سورة النمل - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده، ولا أحد يكيده، مالت إلى المسالمة، فاستأنف سبحانه وتعالى الإخبار عنها بقوله: {قالت} جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب أن الصواب من غير ارتياب أن نحتال في عدم قصد هذا الملك المطاع؛ ثم عللت هذا الذي أفهمه سياق كلامها بقولها {إن الملوك} أي مطلقاً، فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا قرية} أي عنوة بالقهر والغلبة {أفسدوها} أي بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي بما يرونهم من البأس، ويحلون بهم من السطوة. ثم أكدت هذا المعنى بقولها: {وكذلك} أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن، الوعر المسلك البعيد الشأو {يفعلون} دائماً، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا، فكيف بمن تطيعه الطيور، ذوات الوكور، فيما يريده من الأمور.
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة، فقالت: {وإني مرسلة} وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها: {إليهم} أي إليه وإلى جنوده {بهدية} أي تقع منهم موقعاً. قال البغوي: وهي العطية على طريق الملاطفة. {فناظرة} عقب ذلك وبسببه {بم} أي بأي شيء {يرجع المرسلون} بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً.
ولما كان التقدير: فأرسلت بالهدية، وهي فيما يقال خمسمائة غلام مرد، زينتهم بزي الجواري، وأمرتهم بتأنيث الكلام، وخمسمائة جارية في زي الغلمان، وأمر لهم بتغليظ الكلام. وجزعه معوجة الثقب، ودرة غير مثقوبة- وغير ذلك، وسألته أن يميز بين الغلمان والجواري، وأن يثقب الدرة، وأن يدخل في الجزعة خيطاً، فأمرهم بغسل الوجوه والأيدي، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها ثم تنقله إلى الأخرى ثم تضرب الوجه وتصب الماء على باطن ساعدها صباً، وكان الغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ويصب الماء على ظهر الساعد ويحدره على يديه حدراً، وأمر الأرضة فثقبت الدرة، والدودة فأدخلت السلك في الثقب المعوج، رتب عليه قوله مشيراً بالفاء إلى سرعة الإرسال: {فلما جاء} أي الرسول الذي بعثته وأرسلته، والمراد به الجنس؛ قال أبو حيان: وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث. {سليمان} فدفع إليه ذلك {قال} أي سليمان عليه السلام للرسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه: {أتمدونن} أي أنت ومن معك ومن أرسلك {بمال} وإنما قصدي لكم لأجل الدين، تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه، ولا يرضيه شيء دون طاعة الله.
ثم سبب عنه ما أوجب له استصغار ما معه فقال: {فما آتاني الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقرب منه سبحانه، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه، فمهما سأله أعطاه، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به {خير مما آتاكم} أي من الملك الذي لا نبوة فيه، ولا تأييد من الله.
ولما كان التقدير: ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا، نسق عليه قوله: {بل أنتم} أي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه، فأنتم {بهديتكم تفرحون} بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوه لأجل ما آتاكم منه من الدنيا، فحالي خلاف حالكم، فإنه لا يرضيني إلا الدين. ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله: {ارجع} وجمع في قوله: {إليهم} إكراماً لنفسه، وصيانه لاسمها عن التصريح بضميرها، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي طاقة {لهم بها} أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها، أي لا يقدرون أن يقابلوها {ولنخرجنهم منها} أي من بلادهم {أذلة}.
ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد، لا على سبيل الهوان، حقق المراد بقوله: {وهم صاغرون} أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام.
ولما ذهب الرسل، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة {قال} لجماعته تحقيقاً لقوله: {وأوتينا من كل شيء} لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها: {يا أيها الملأ} أي الأشراف {أيّكم يأتيني بعرشها} لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق، فيكون أعون على متابعتها في الدين، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها، وأختبر به عقلها {قبل أن يأتوني} أي هي وجماعتها {مسلمين} أي منقادين لسلطاني، تاركين لعز سلطانهم، منخلعين من عظيم شأنهم، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه {قال عفريت}. ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد، وعلى المارد القوي، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة- وقال الرازي: مع خبث ومكر- وعلى غيره، بينه بأن قال: {من الجن أنا} الداهية الغليظ الشديد {آتيك به} ولما علم أن غرضه الإسراع قال: {قبل أن تقوم من مقامك} أي مجلسك هذا، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله: {وإني عليه} أي الإتيان به سالماً {لقوي} لا يخشى عجزي عنه {أمين} لا يخاف انتقاضي شيئاً منه.
ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم، ترغيباً في القرآن، وحثاً على ما أفاده من البيان، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشرافه صلى الله عليه وسلم لأقرب من ذلك: {قال الذي عنده}.
ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال: {علم} تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال: {من الكتاب} أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره، وهو المنسوب إلينا، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان، ولعله التوراة والزبور، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة كان الله- تعالى كما ورد في شرعنا- سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أي إنه يفعل له ما يشاء، وقيل في تعيينه إنه آصف بن برخيا وكان صديقاً عالماً: {أنا آتيك به} وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام؛ وبين فضله على العفريت بقوله: {قبل أن يرتد} أي يرجع {إليك طرفك} أي بصرك إذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته؛ قال القزاز: طرف العين: امتداد بصرها حيث أدرك، ولذلك يقولون: لا أفعل ذلك ما ارتد إليّ طرفي، أي ما دمت أبصر، ويقال: طرف الرجل يطرف- إذا حرك جفونه، وقيل: الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع. وبين تصديق فعله لقوله أنه استولىعليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى: {فلما رآه} أي العرش.
ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية، وكذلك العندية، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال: {مستقراً عنده} أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه، ما هو بسحر ولا منام لا مثال؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب الثالث من كتابه المغني: زعم ابن عطية أن {مستقراً} هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول، فهو كون خاص. {قال} أي سليمان عليه السلام شكراً لما آتاه الله من هذه الخوارق: {هذا} أي الإتيان المحقق {من فضل ربي} أي المحسن إليّ، لا بعمل أستحق به شيئاً، فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل، فكل عمل نعمة منه يستوجب عليّ به الشكر، ولذلك قال: {ليبلوني} أي يفعل معي فعل المبتلي الناظر {ءأشكر} فأعترف بكونه فضلاً {أم أكفر} بظن أني أوتيته باستحقاق. ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله: {ومن شكر} أي أوقع الشكر لربه {فإنما يشكر لنفسه} فإن نفعه لها، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر {ومن كفر فإن ربي} أي المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر {غني} أي عن شكر، لا يضره تركه شيئاً {كريم} يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه، ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرامه كما يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك.


ولما قدم- كما هو دأب الصالحين- الشكر، علم أنه يفعل في العرش ما لأجله أحضره، تشوفت النفس إليه فأجيبت بقوله: {قال} أي سليمان عليه السلام: {نكروا لها عرشها} أي بتغيير بعض معالمه وهيئته اختباراً بعقلها كما اختبرتنا هي بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {ننظر أتهتدي} أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون} أي بل هم في غاية الغباوة، لا يتجدد لهم اهتداء، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه، وجادلوا بالباطل وما حلوا، وأشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله: {فلما جاءت} وكان مجيئها- على ما قيل- في اثنى عشر ألف قيل من وجوه اليمن، تحت يد كل قيل ألوف كثيرة، وكانت قد وضعت عرشها داخل بيت منيع، ووكلت به حراساً أشداء {قيل} أي لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره بتقليب نصبه وتغييره، من قائل لا يقدر على السكوت عن جوابه لما نالها من الهيبة وخالطها من الرعب من عظيم ما رأت، فقرعها بكلمة تشمل على أربع كلمات: هاء التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة، مصدرة بهمزة الاستفهام، أي تنبهي {أهكذا} أمثل ذا العرش {عرشك قالت} عادلة عن حق الجواب من نعم أو لا إشارة إلى أنها غلب على ظنها أنه هو بعينه كما قالوا في كأن زيداً قائم: {كأنه هو} وذلك يدل على ثبات كبير، وفكر ثاقب، ونظر ثابت، وطبع منقاد، لتجويز المعجزات والإذعان لها مع دهشة القدوم، واشتغال الفكر بما دهمها من هيبته وعظيم أمره، فعلم سليمان عليه السلام رجاحة عقلها وبطلان ما قال الشياطين من نقصه خوفاً من أن يتزوجها فتفشي عليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية- على ما قيل، وقالوا: إن رجلها كحافر الحمار، وإنها كثيرة الشعر جداً.
ولما كانت مع ذلك قد شبه عليها ولم تصل إلى حاق الانكشاف مع أنها غلبت على عرشها مع الاحتفاظ عليه، استحضر صلى الله عليه وسلم ما خصه الله به من العلم زيادة في حثه على الشكر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأوتيت من أمر عرشها علماً، ولكنه يخالجه شك، فدل على أنها في الجملة من أهل العلم المهيئي للهداية، أو يكون التقدير بما دل عليه ما يلزم من قولها {كأنه}: فجهلت أمر عرشها على كثرة ملابستها له: {وأوتينا} معبراً بنون الواحد المطاع، لا سيما والمؤتى سبب لعظمة شرعية، وهو العلم الذي لا يقدر على إيتائه غير الله، ولذلك بني الفعل للمفعول لأن فاعله معلوم {العلم} أي بجميع ما آتانا الله علمه، ومنه أنه يخفى عليها {من قبلها} أي من قبل إتيانها، بأن عرشها يشتبه عليها، أو من قبل علمها بما ظنت من أمر عرشها، أو أنا وأسلافي من قبل وجودها، فنحن عريقون في العلم، فلذلك نحن على حقيقة من جميع أمورنا، وإنما قال: {ننظر أتهتدي} بالنسبة إلى جنوده.
ثم ذكر السبب في وجود العلم واتساعه وثباته فقال: {وكنا} أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية {مسلمين} أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره كما أشار إليه قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]، {يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس: 9].
ولما كان المعنى: وأما هي فإنها وإن أوتيت علماً فلم يكن ثابتاً، ولا كان معه دين، ترجمه بقوله: {وصدها} أي هي عن كمال العلم كما صدها عن الدين {ما} أي المعبود الذي {كانت} أي كوناً ثابتاً في الزمن الماضي {تعبد} أي عبادة مبتدئة {من دون الله} أي غير الملك الأعلى الذي له الكمال كله أو أدنى رتبة من رتبته، وهي عبادة الشمس ليظهر الفرق بين حزب الله الحكيم العليم وحزب إبليس السفيه الجهول. ثم علل ذلك إشارة إلى عظيم نعمة الله عليه بالنعمة على أسلافه بقوله: {إنها} وقرئ بالفتح على البدل من فاعل صد {كانت من قوم} أي ذوي بطش وقيام {كافرين} أي فكان ذلك سبباً- وإن كانت في غاية من وفور العقل وصفاء الذهن وقبول العلم كما دل عليه ظنها في عرشها، ما يهتدي له إلا من عنده قابلية الهدي- في اقتفائها لآثارهم في الدين، فصديت مرآة فكرها ونبت صوارم عقلها.
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل: نعم! {قيل لها} أي من قائل من جنود سليمان عليه السلام، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين: {ادخلي الصرح} وهو قصر بناه قبل قدومها، وجلس في صدره، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي، وأجرى تحته الماء، وجعل فيه دواب البحر، وأصله- كما قال في الجمع بين العباب والمحكم: بيت واحد يبني منفرداً ضخماً طويلاً في السماء، قال: وقيل: كل بناء متسع مرتفع، وقيل: هو القصر، وقيل: كل بناء عال مرتفع، والصرح: الأرض المملسة، وصرحة الدار ساحتها. ودل على مبادرتها لامتثال الأمر وسرعة دخولها بالفاء فقال: {فلما رأته} وعبر بما هو من الحسبان دلالة على أن عقلها وأن كان في غاية الرجاحة ناقص لعبادتها لغير الله فقال: {حسبته} أي لشدة صفاء الزجاج واتصال الماء بسطحه الأسفل {لجة} أي غمرة عظيمة من ماء، فعزمت على خوضها إظهاراً لتمام الاستسلام {وكشفت عن ساقيها} أي لئلا تبتل ثيابها فتحتاج إلى تغييرها قبل الوصول إلى سليمان عليه السلام، فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً غير أنها شعراء.
ولما حصل مراده، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل: {قال} مبيناً لعظم عقله وعلمه، وحكمته وقدرته، مؤكداً لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء: {إنه} أي هذا الذي ظننته ماءاً {صرح} أي قصر {ممرد} أي مملس، وأصل المرودة: الملامة والاستواء {من} أي كائن من {قوارير} أي زجاج ليتصف بشفوفة الماء فيظن أنه لا حائل دونه، فلما رأت ما فضله الله به من العلم، المؤيد بالحكمة، المكمل بالوقار والسكينة، المتمم بالخوارق، بادرت إلى طاعته علماً بأنه رسول الله، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله: {قالت} مقبلة على من آتاه، للاستمطار من فضله، والاستجداء من عظيم وبله: {رب} أي أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت} أي ليظهر عليّ ثمرات الإسلام.
ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه، والإذعان له، والانقياد والاعتراف بالفضل، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت: {مع سليمان}.
ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات فقالت: {لله} أي مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية. ثم رجعت إشارة إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت: {رب العالمين} فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، فلله درها ما أعلمها! وأطيب أعراقها وأكرمها! ويقال: أن سليمان عليه السلام تزوجها واصطنع الحمام- وهو أول من اتخذه- وأذهب شعرها بالنورة.


ولما أتم سبحانه هذه القصة المؤسسة على العلم المشيد بالحكمة المنبئة عن أن المدعوين فيها أطبقوا على الاستسلام للدخول في الإسلام، مع أبالة الملك ورئاسة العز، والقهر على يد غريب عنهم بعيد منهم، أتبعها قصة انقسم أهلها مع الذل والفقر فريقين مع أن الداعي منهم لا يزول باتباعه شيء من العز عنهم، مع ما فيها من الحكمة، وإظهار دقيق العلم بإبطال المكر، بعد طول الأناة والحلم، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق لمن ظن أن هذا شأن كل رسول مع يدعوهم، عاطفاً على {ولقد آتينا داود}: {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {إلى ثمود} ثم أشار إلى العجب من توقفهم بقوله: {أخاهم صالحاً} فجمع إلى حسن الفعل حسن الاسم وقرب النسب. ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن، وهو الاعتراف بالحق لأهله، فقال: {أن اعبدوا الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده، ولا تشركوا به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام متفقون على ذلك عربهم وعجمهم. ثم زاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال: {فإذا هم} أي ثمود {فريقان} ثم بين بقوله: {يختصمون} أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان، لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف. وتأتي هنا الإشارة إليه بقوله: {وبمن معك} وبعضهم استمر على شركه وكذبه، وكل فريق يقول: أنا على الحق وخصمي على الباطل. ثم استأنف بما أشار إليه حرف التوقع من شدة التشوف قائلاً: {قال} أي صالح مستعطفاً في هدايته: {يا قوم} أي يا أولاد عمي ومن فيهم كفاية للقيام بالمصالح {لم تستعجلون} أي تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب له. واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء {ائتنا بما تعدنا} {لولا} أي هلا ولم لا {تستغفرون الله} أي تطلبون غفران الذي له صفات الكمال لذنوبكم السالفة بالرجوع إيه بالتوبة بإخلاص العبادة له {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا على رجاء من أن تعاملوا من كل من فيه خير معاملة المرحوم بإعطاء الخير والحماية من الشر، ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: {قالوا} فظاظة وغلظة مشيرين بالإدغام إلى أن ما يقولونه إنما يفهمه الحذاق بمعرفة الزجر وإن كان الظاهر خلافه بما أتاهم به من الناقة التي كان في وجودها من البركة أمر عظيم؛ {اطيرنا} أي تشاءمنا {بك وبمن معك} أي وهو الذين آمنوا بك، فإنه وقع بيننا بسببكم الخلاف، وكثر القال والقيل والإرجاف، وحصلت لنا شدائد واعتساف، لأنا جعلناكم مثل الطائر الذي يمر من جهة الشمال- على ما يأتي في الصافات {قال طائركم} أي ما تيمنون به فيثمر ما يسركم، أو تتشاءمون به فينشأ عنه ما يسوءكم وهو عملكم من الخير أو الشر {عند الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وليس شيء منه بيد غيره ولا ينسب إليه، فإن شاء جعلنا سببه وإن شاء جعل غيرنا.
ولما كان معنى نسبته إلى الله أن هذا الذي بكم الآن من الشر ليس منا، قال: {بل أنتم قوم تفتنون} أي تختبرون من الملك الأعلى بما تنسبونه إلى الطير من الخير والشر، أي تعاملون به معاملة الاختبار هل تصلحون للخير بالرجوع عن الذنب فيخفف عنكم أو لا فتمحنوا.
ولما أخبر عن عامة هذا الفريق بالشر، أخبر عن شرهم بقوله: {وكان في المدينة} أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها {تسعة رهط} أي رجال، مقابلة لآيات موسى التسع.
ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال، أضيفت التسعة إليه، فكأنه قيل: تسعة رجال، وإن كان لقوم ورجال مخصوصين، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، وما دون التسعة فنفر، وقال في القاموس: إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق، والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع {يفسدون} وقال: {في الأرض} إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه.
ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض أفعاله، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك، بل هم شر محض فحقق خلوصهم للفساد بقوله مصرحاً بما أفهمته صيغة المضارع: {ولا يصلحون}.
ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم، أجاب بقوله: {قالوا تقاسموا} أمر مما منه القسم، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم {بالله} أي الذي لا سمى له لما شاع من عظمته، وشمول إحاطته في علمه وقدرته، فليقل كل منكم عن نفسه ومن معه إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد: {لنبيتنّه} أي صالحاً {وأهله} أي لنهلكن الجميع ليلاً، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً.
ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم، قالوا: {ثم لنقولن لوليّه} أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد: {ما شهدنا} أي حضرنا حضوراً تاماً {مهلك} أي هلاك {أهله} أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا، أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكهم. ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه- عليه السلام- أكثر من الفجيعة بهلاك أهله وأعظم، كان في السياق بالإسناد إلى الولي- على تقدير كون الضمير لصالح عليه السلام- أتم إرشاد إلى أن التقدير: ولا مهلكه.
ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف والاجتراء على الكذب فقالو: {وإنا} أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم، إيهاماً لتحقق الصدق: وإنا {لصادقون} فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله العظيم، ثم نفروا عنه نفور الظليم، إلى أوثان أنفع منها الهشيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6